فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب} أي بالتوراة، أي بالعمل بها؛ يقال: مسك به وتمسك به أي استمسك به.
وقرأ أبو العالِية وعاصم في رواية أبي بكر {يُمْسِكُونَ} بالتخفيف من أمسك يمسك.
والقراءة الأُولى أوْلى؛ لأن فيها معنى التكرير والتكثير للتمسك بكتاب الله تعالى وبدينه فبذلك يُمدحون.
فالتمسك بكتاب الله والدِّين يحتاج إلى الملازمة والتكرير لفعل ذلك.
وقال كعب بن زهير:
فما تَمسّكُ بالعهد الذي زعمتْ ** إلاّ كما تُمسك الماءَ الغرابيلُ

فجاء به على طبعه يذمّ بكثرة نقض العهد. اهـ.

.قال الخازن:

{والذين يمسكون بالكتاب}.
يقال مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به وأمسكت به والمراد بالتمسك بالكتاب العمل بما فيه من إحلال حلاله وتحريم حرامه وإقامة حدوده والتمسك بأحكامه.
نزلت هذه الآية في الذين أسلموا من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه لأنهم تمسكوا بالكتاب الأول ولم يحرفوه ولم يغيروه فأداهم ذلك المسك إلى الإيمان بالكتاب الثاني وهو القرآن {وأقاموا الصلاة} يعني وداوموا على إقامتها في مواقيتها وإنما أفردها بالذكر وإن كانت الصلاة داخلة في التمسك بالكتاب تنبيهًا على عظم قدرها وأنها من أعظم العبادات بعد الإيمان بالله وبرسوله {إنا لا نضيع أجر المصلحين}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحِين}.
الظاهر أنّ الكتاب هو السابق ذكره في {ورثوا الكتاب} فيجيء الخلاف فيه كالخلاف في ذلك وهو مبني على المراد في قوله: {خلف ورثوا}، وقيل: الكتاب هنا للجنس أي الكتب الإلهية والتمسّك بالكتاب يستلزم إقامة الصلاة لكنها أفردت بالذكر تعظيمًا لشأنها لأنها عماد الدين بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة، وقرأ عمر وأبو العالية وأبو بكر عن عاصم {يمسكون} من أمسك والجمهور {يمسكون} مشدّدًا من مسك وهما لغتان جمع بينهما كعب بن زهير فقال:
فما تمسّك بالعهد الذي زعمت ** إلا كما يمسك الماء الغرابيل

وأمسك متعدّ قال: {ويمسك السماء أن تقع عَلى الأرض} فالمفعول هنا محذوف أي يمسكون أعمالهم أي يضبطونها والباء على هذا تحتمل الحالية والآلة ومسك مشدد بمعنى تمسّك والباء معها للآلة وفعل تأتّي بمعنى تفعل نصّ عليه التصريفيون، وقرأ عبد الله والأعمش: استمسكوا وفي حرف أبي تمسكوا بالكتاب والظاهر أن قوله: {والذين} استئناف إخبار لما ذكر حال من لم يتمسك بالكتاب ذكر حال من استمسك به فيكون والذين على هذا مرفوعًا بالابتداء وخبره الجملة بعده كقوله: {إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا} إذا جعلنا الرابط هو في من أحسن عملًا وهو العموم كذلك هذا يكون الرابط هو العموم في {المصلحين}، وقال الحوفي وأبو البقاء: الرابط محذوف تقديره أجر المصلحين اعتراض والتقدير مأجورون أو نأجرهم انتهى، ولا ضرورة إلى ادعاء الحذف وأجاز أبو البقاء أن يكون الرّابط هو {المصلحين} وضعه موضع المضمر أي لا نضيع أجرهم انتهى، وهذا على مذهب الأخفش حيث أجاز الرابط بالظاهر إذا كان هو المبتدأ فأجاز زيد قام أبو عمرو إذا كان أبو عمرو وكنية زيد كأنه قال: زيد أي هو وأجاز الزمخشري أن يكون {والذين} في موضع جرّ عطفًا على {الذين يتّقون} ولم يذكر ابن عطية غيره والاستئناف هو الظاهر كما قلنا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب} أي يتمسكون في أمور دينهم، يقال: مسَك بالشيء وتمسّك به. قال مجاهد: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد اللَّه بن سلام وأصحابِه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرّفوه ولم يكتُموه ولم يتخذوه مأكلةً، وقال عطاء: هم أمةُ محمد عليه الصلاة والسلام وقرئ {يُمْسِكون} من الإمساك وقرئ {تمسّكون} و{استمسكوا} موافقًا لقوله تعالى: {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} ولعل التغييرَ في المشهورة للدلالة على أن التمسّك بالكتاب أمرٌ مستمرٌ في جميع الأزمنة بخلاف إقامةِ الصلاة فإنها مختصةٌ بأوقاتها، وتخصيصُها بالذكر من بين سائر العبادات لإنافتها عليها، ومحلُّ الموصولِ إما الجرُّ نسقًا على {الذين يتقون} وقولُه: {أفلا تعقلون} اعتراضٌ مقرر لما قبله وإما الرفعُ على الابتداء والخبر قوله تعالى: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} والرابطُ إما الضميرُ المحذوفُ كما هو رأيُ جمهورِ البصْريين، والتقديرُ أجرُ المصلحين منهم، وإما الألفُ واللامُ كما هو رأيُ الكوفيين فإنه في حكم مُصلحيهم كما في قوله تعالى: {فَإِنَّ الجنة هي المأوى} أي مأواهم وقوله تعالى: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} أي أبوابُها، وإما العمومُ في مصلحين فإنه من الروابط، ومنه نعم الرجلُ زيدٌ على أحد الوجوه. وقيل: الخبرُ محذوفٌ والتقديرُ: والذين يمسّكون بالكتاب مأجورون أو مثابرون وقوله تعالى: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} الخ، اعتراضٌ مقرر لما قبله. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} أي يتمسكون به في أمور دينهم يقال: مسك بالشيء وتمسك به بمعنى، قال مجاهد.
وابن زيد: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة وقال عطاء: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمراد من الكتاب القرآن الجليل الشأن، وقرأ أبو بكر.
وحم {يُمَسّكُونَ} التخفيف من الإمساك، وابن مسعود {استمسكوا}، وأبي {مسكوا} وفي ذلك موافقة لقوله تعالى: {بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة} ولعل التغيير في المشهور للدلالة على أن التمسك أمر مستمر في جميع الأزمنة بخلاف الإقامة فإنها مختصة بالأوقات المخصوصة، وتخصيصها بالذكر من بين سائر العبادات مع دخولها بالتمسك بالكتاب لانافتها عليها لأنها عماد الدين، ومحل الموصول إما الجر عطفًا على {للذين يتقون} [الأعراف: 169]، وقوله تعالى: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169] اعتراض مقرر لما قبله، والاعتراض قد يقرن بالفاء كقوله:
فاعلم فعلم المرء ينفعه ** أن سوف يأتي كل ما قدرا

وإما الرفع على الابتداء والخبر قوله سبحانه: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} والرابط إما الضمير المحذوف كما هو رأي جمهور البصريين أي أجر المصلحين منهم وإما الألف واللام كما هو رأي الكوفيين فإنها كالعوض عن الضمير فكأنه قيل مصلحيهم، وأما العموم في المصلحين فإنه على المشهور من الروابط ومنه نعم الرجل زيد على أحد الأوجه أو وضع الظاهر موضع المضمر بناء على أن الأصل لا نضيع أجرهم إلا أنه غير لما ذكر تنبيهًا على أن الصلاح كالمانع من التضييع لأن التعليق بالمشتق يفيد علية مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل: لا نضيع أجرهم لصلاحهم.
وقيل: الخبر محذوف والتقدير والذين يمسكون بالكتاب مأجورون أو مثابون، وقوله سبحانه: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} إلخ حينئذ اعتراض مقرر لما قبله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله تعالى: {والذين يمسِكون بالكتاب}.
وقعت جملة: {والذين يمسِكون بالكتاب} إلى آخرها عقب التي قبلها: لأن مضمونها مقابلَ حكمَ التي قبلها إذ حصل من التي قبلها أن هؤلاء الخلف الذين أخذوا عرض الأدني قد فرطوا في ميثاق الكتاب، ولم يكونوا من المتقين، فعُقب ذلك ببشارة من كانوا ضد أعمالهم، وهم الآخذون بميثاق الكتاب والعاملون ببشارته بالرسل، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأولئك يستكملون أجرهم لأنهم مصلحون.
فكني عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة، لأن الصلاة شعار دين الإسلام، حتى سمي أهل الإسلام أهلَ القبلة، فالمراد من هؤلاء هم من آمن من اليهود بعيسى في الجملة وإن لم يتبعوا النصرانية، لأنهم وجدوها مبدّلة محرّفة فبقوا في انتظار الرسول المخلّص الذي بشرت به التوراة والإنجيل، ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم حين بُعث: مثل عبد الله بن سَلاَم.
ويحتمل أن المراد بالذين يمسكون بالكتاب: المسلمون، ثناء عليهم بأنهم الفائزون في الآخرة وتبشيرًا لهم بأنهم لا يسلكون بكتابهم مسلك اليهود بكتابهم.
وجملة: {إنا لا نضيع أجر المصلحين} خبر عن الذين يمسكون، والمصلحون هم، والتقدير: إنّا لا نضيع أجرهم لأنهم مصلحون، فطوي ذكرهم اكتفاء بشمول الوصف لهم وثناء عليهم على طريقة الإيجاز البديع. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}.
إنّ الكثير من بني إسرائيل ورثوا الكتاب، وأخذوا العرض الأدنى، ولم يزنوا الأمور بعقولهم؛ لذلك لم يتمسكوا بالكتاب، وتركوه، وساروا على هواهم؛ كأنهم غير مقيدين بمنهج افعل كذَا ولا تفعل كذَا، ويقابلهم بعض الذين يتمسكون بالكتاب الذي ورثوه، ولا يقولوا على الله إلا الحق.
ومادة الميم والسين والكاف تدل على الارتباط الوثيق؛ فالذي يجعل الانسان متصلًا بالشيء هو ماسكه، وتقول: مسَكَ وتقول: مَسَّكَ، وأمسك، وتقول استمسك، وتماسك، وكلها مادة واحدة. وقوله الحق: {يمسِّكون} مبالغة في المسك، كُل قطع وقطَّع، ولكن قطَّع أبلغ.
ومسَّك يعني أن الماسك تمكن مما يمسك، واستمسك أي طلب، وتماسك أي أنّ هناك تفاعلًا بين الاثنين؛ بين الماسك والممسوك. ومن رحمة ربنا أنه لا يطلب منا أن نمسك الكتاب. بل يطلب أن نستمسك بالكتاب، ولذلك يوضح لك الحق سبحانه وتعالى: إن أنت ملت إلى القرب مني والزلفىإليّ، فاترك الباقي عنك فالمعونة منّي أنا، ولذلك يدلنا على أن من ينفذ منهج القرآن لا يلقى الهوان أبدا {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا} وهنا يستخدم الحق سبحانه كلمة استمسك لا كلمة مسَك، فمن وجه نيته في أن يفعل يعطيه الله المعونة، ولذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليَّ بشبر، تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليّ ذراعا، تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة.».
فأنت بإيمانك بالله تعزز نفسك وتقويها بمعونه الله لك. فإن أردت أن يذكرك الله فاذكر الله؛ فإن ذكرته في نفسك يذكرك في نفسه، وإن ذكرته في ملأ يذكرك في ملأ خير منه، وإن تقربت إليه شبرًا تقرب إليك ذراعًا، فماذا تريد أكثر من ذلك، خاصة أنك لن تضيف إليه شيئًا، إذن فالموقف في يدك، فإذا أردت أن يكون الله معك فسر في طريقه تأت لك المعونة فورًا. وهكذا يكون الموقف معك وينتقل إليك، وذلك بإيمانك بالله وإقبالك على حب الارتباط به.
ولذلك قلنا من قبل: إن الانسان إذا أراد أن يلقى عظيمًا من عظماء الدنيا وفي يده مصلحة من مصالح الإِنسان فهو يكتب طلبًا، فإما أن يوافق هذا العظيم وإما ألاّ يوافق، وحين يوافق هذا العظيم يحدد الزمان ويحدد المكان، ويسألك مدير مكتبه عن الموضوعات التي ستتكلم فيها، وحين تقابله وينتهي الوقت، فهو يقف من كرسيه لينهي المقابلة، هذا هو العظيم من البشر، لكن ماذا عن العظيم الأعظم الأعلى الذي تلتقي به في الإِيمان؟ أنت تلقى الله في أي وقت، وفي أي مكان، وتقول له ما تريد، وأنت الذي تنهي المقابلة، ألا يكفي كل ذلك لتستمسك بالإِيمان؟.
{والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} [الأعراف: 170].
والكتاب هنا هو الكتاب الموروث، والمقصود به التوراة وهو الذي درسوا ما فيه، وقد أخذ الله في هذا الكتاب الميثاق عليهم ألا يقولوا على الله إلا الحق، والحق يقول هنا: {وَأَقَامُواْ الصلاة} فهل هذا الكتاب ليس فيه إلا الصلاة؟ لا، ولكنه خص الصلاة بالذكر. لأننا نعلم أن الصلاة عماد الدين، وعرفنا في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن الصلاة قد فرضت بالمباشرة، وكل فروض الإِسلام- غير الصلاة- قد فرضت بالوحي.